في زمن الحجر… الكتب كمالياتٌ والمكتبات تُعارك

سليم البيك*

سؤال زياد الرحباني الدائم، في أيهما أطيب: الثقافة أم المناقيش، ومعه جوابه الدائم كذلك: المناقيش، يُستعاد في أيام الحجْر الصحي، والإغلاق التام الذي يعيشه العالم بدرجات ومراحل زمانية ومكانية متفاوتة. وهذا التفاوت بحالاته، يوافق زياد ويتخطاه في أن الثقافة ليست أقل طيبةً فحسب، بل هي ومساحاتها من الصالات إلى المسارح والمكتبات، ليست من الأساسيات.

هي ليست كذلك لدى السلطات. مقاربة زياد كانت في سياق أكثر تفاؤلاً، في أن طعم الثقافة يتوجب أن يكون له طعم المنقوشة، لتصير الثقافة شعبية (مُتناوَلة ومنتشرة) وغير نخبوية، محصورة بأهلها والعاملين فيها. مقاربته التي أتت في واحدة من اسكتشاته الإذاعية القديمة، كانت دعوة لجعل الثقافة متاحة للناس غير المشتغلين فيها، وبالتالي تتخطى كونها كماليات إلى أن تكون من أساسيات الحياة، كالطعام والشراب، وهذا آتٍ من خلفية شيوعية مثالية داعية، بكل الأحوال، إلى أن تكون الثقافة حقاً طبيعياً ويومياً وأساسياً للناس عامة. اليوم، هي النقيض تماماً.

هي، إذن، ليست كذلك لدى السلطات في العالم، في أوروبا، حيث أثير الموضوع في الأيام الأخيرة، في بريطانيا وفرنسا مثلاً، وقد ثبتَ أن الثقافة ليست من الأساسيات، وقد ثبت أن ليس للكتاب أهمية سندويشة الكباب سيئة الصيت. هي سُلطات رأسمالية بكل الأحوال، والثقافة (صالات ومعارض ومكتبات…) كانت من بين أوئل المرافق التي تم التخلي عنها مع الإغلاقات التامة أو الجزئية في البلدين، وفي غيرهما، وقد أتيتُ بفرنسا وبريطانيا كمثالين، حيث للثقافة حال أفضل منه في بلدان أخرى. كانت المساحات الثقافية، مع تخفيف الإغلاقات في الصيف، من بين آخر المرافق التي عادت لنشاطها، وكانت العودة تدريجية وكانت جزئية، وكان ذلك محكوماً بمعايير وقوانين تجبر، مثلاً، المكتبات على حد أقصى من الزائرين فيها، والصالات بقدرة استيعاب أقل من النصف، في وقت تكون فيه طاولات المطاعم الخارجية ممتلئة ومتقاربة ولا تستلزم كمامات.

أُغلقَت المكتبات مع الحجْر الثاني (كذلك) الذي تعيشه كل من فرنسا وبريطانيا، مع الموجة الثانية (الحالية) لتفشي فيروس كورونا.

كي لا أشير إلى صالات السينما التي كانت من الأكثر تضرراً من سياسات الإغلاق التام في فرنسا والعالم، سأبقى في موضوع يحمل بعض التفاؤل بفضل مقاومة أهله لسياسات الحجر الصحي، وهو المكتبات، كمَنفذ ثقافي، كموقع، كمتجر يتيح لزائره منتَجاً ثقافياً يحتاجه، ويكون من أساسيات حياته (وإن كان، بالنسبة لآخرين، وإن وُجدت أساساً، من الكماليات).

أُغلقَت المكتبات مع الحجْر الثاني (كذلك) الذي تعيشه كل من فرنسا وبريطانيا، مع الموجة الثانية (الحالية) لتفشي فيروس كورونا. لكن المسألة التي بدأت بالإغلاقات، لم تنتهِ عنده، إذ سمحت الدولة في كل من البلدين، للمتاجر الكبيرة، السوبرماركت، بمواصلة استقبال زبائنها، من بينها سلاسل محلات كـ»كارفور» والمتاجر الكبرى المماثلة، و»فناك» التي تبيع كذلك منتجات ثقافية أساسها الكتب، لكن، وبعد حملة شهدتها فرنسا، اضطرت كل هذه المحال الكبرى إلى حصر مبيعاتها بالمنتجات الأساسية، فلا تبيع الكتب مثلاً، وقد «ناضل» أصحاب المكتبات ورفاقهم لمنع «فناك» من بيع الكتب. في بريطانيا الوضع أشد بؤساً، إذ أُغلقت المكتبات مع السماح لغيرها بإبقاء أبوابها مفتوحة، فنجد، للسخرية، كشكاً لبيع الصحف يبيع كذلك الكتب، ونجد سوبرماركت نشتري فيه كيلو الطحين مع الكتاب، لكن تبقى المكتبات (المجاورة أو المقابلة) مغلقة.

وكان، لذلك، لأصحاب مكتبات ردودهم الساخرة والرمزية في مواصلة بيع الكتب في فرنسا، إذ انتشرت صور لأصحاب مكتبات بدأوا ببيع منتجات غذائية تجانب الكتب الموجودة أساساً على رفوفها، فيكون القرع والجزر في قسم الأدب مثلاً، والبطاطا الحلوة عند الفلسفة هناك. بهذه البهدلة فقط، تبقي المكتبات أبوابها مفتوحة كمتاجر لبيع مواد أساسية ليست الكتب من بينها. لكن، قد لا يكون ذلك مجدياً في مكتبة لها زوارها، وقد لا يميز صاحبها بين ضمة البقدونس وضمة النعنع (كي لا أقول الكزبرة)، مكتبة تفتح أبوابها طوال النهار لتبيع الباستا والبصل، وكل ما هو دون تلك الكتب المصفوفة على رفوفها. تبقى، رغم ذلك، حركة احتجاجية سريعة وساخرة وكافكاوية يائسة، تجاه معايير الحكومة في القرار عن الأفراد، في ما هو أساسي لهم، وما هو كمالي.

الرد الأفضل، في ظروف كهذه، أتى وكان في اتحاد المكتبات المستقلة والصغيرة، في كل من البلدين، لأن تتصدى أساساً لمقتنص هذه الفرص الأكبر، وهو موقع «أمازون» الأمريكي (المكروه فرنسياً). إذ لا حل مع الحكومات التي اختارت أن تكون سندويشات الكباب (ويا ليتها المناقيش) أساسية للحياة، ولا يكون الكتاب كذلك. ومحاولات الاحتجاج لاتزال متواصلة لفتح المكتبات في البلدين وفي غيرهما، إنما، وكي لا تختلي «أمازون» بساحة بيع الكتاب للقراء، اتحد العديد من المكتبات في فرنسا لتبيع كل مكتبة كتبها من خلال نظام «click & collect» الذي لقي دعماً واسعاً من الصحافة الثقافية، إذ يشتري القارئ الكتاب من موقع المكتبة المحلية، أو التي اعتادها ويذهب ليستلمه عند باب المكتبة، أو من المواقع الإلكترونية الجماعية التي ظهرت أخيراً، وتشمل عدة مكتبات، وهي، حسب نقابة المكتبات الفرنسية، 3300 مكتبة بالكاد جنت، خلال العام، ربع ما تجنيه سنوياً من بيع الكتب.

في بريطانيا كذلك، تم إنشاء موقع واحد وشامل هو «bookshop»، يدل زائرَه على المكتبات الكثيرة المشتركة فيه، يختار المكتبة ويشتري منها، أو يختار الكتاب ويشتريه بغض النظر عن المكتبة، ليصل أخيراً بالبريد خلال أيام. ليست هذه الحلول مثالية، فلا تتيح للقارئ التجول المجاني والمتكرر واللذيذ في المكتبة وبين الكتب، إنما، هو المتاح في معركة خسرتها المكتبات مع الحكومات، وتحاول كسبها مع المتاجر الإلكترونية الكبرى وعلى رأسها «أمازون».

قد لا تنقذ كل هذه المحاولات المكتبات المستقلة والصغيرة المعرضة للإفلاس، لكنها فعل مقاومة استحق الإعجاب والتعاطف. وهذه المحاولات لا تقتصر عليها كمكتبات ضئيلة الحجم، بل حتى الكبيرة السياحية منها، إذ أرسلت مكتبة «Shakespeare & Co» الشهيرة (والمعلَم السياحي الباريسي) المتخصصة بالكتب الإنكليزية، التي تأسست قبل أكثر من مئة عام، والمطلة على نهر السين وكاتدرائية نوتردام، والتي كانت ناشر رواية «عوليس» لجيمس جويس عام 1922 ومزاراً لكتّاب منهم همنغواي وإليوت وفتزجيرالد وجويس، أرسلت إيميلاً إلى زبائنها ترجوهم فيه دعم المكتبة في أزمتها، بشراء كتاب واحد على الأقل، وكان الرد بأن وصلها 5 آلاف طلب شراء في الأسبوع الأول، في وقت كان الرقم العادي للطلبات أسبوعياً، مئة. هذه المحاولات كلها لا يمكن أن تنقذ الكتاب والمكتبات في العالم، فهي ردود فعل فردية عفوية (والجماعية منها لا يتخذ طابع الاستمرارية) لحالة راهنة ستزول وسيبقى الكتاب وكذلك القراءة من غير الأساسيات في الحياة لدى الأكثرية في هذا العالم ومعها السلطات، وأحكي هنا عن بلدين متقدمين ثقافياً، بريطانيا وفرنسا، أما التساؤل عن الحال عربياً، فهو يستدعي إنهاء المقالة، وفوراً.

*كاتب فلسطيني

المصدر: القدس العربي

Leave A Reply